أ. عبد المولى إسماعيل، مصر
يشهد العالم مزيدًا من التقلبات الاقتصادية بحيث لا نجد الوقت للتعافي من تلك الأزمات إلا ويتبعها أزمات أخرى. شهدت نهاية العام 2019 بروز جائحة كورونا التي ضربت العالم في مقتل أدى إلى قيام العديد من الدول الكبرى اقتصاديًا إلى ممارسة العديد من طرق القرصنة في سبيل الوصول لأبسط الاحتياجات السلعية المتعلقة بدرء مخاطر جائحة كورونا مثل سواء وسائل الحماية من العدوى وصولاً إلى توفير اللقاحات الذي اكتنفته سياسات متعددة.
ولم يكد العالم يتعافى من أزمة كوفيد 19 إلا ونشبت الحرب الروسية على أوكرانيا والتي خلقت أزمات عديدة ومركبة في صعوبة الوصول لخطوط إمداد الغذاء على الصعيد العالمي ، كما واكب تلك الحرب بروز وباء جديد وهو جدري القرود، ولا يقتصر الأمر على الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان فقط بل يمتد إلى عولمة الآفات التي تضرب سبل الوصول لمنتجي ومستهلكي الغذاء في مقتل مثل ذبابة النخيل الحمراء، الحشرة القرمزية التي أصابت نبات الصبار، ومرض التصمغ الذي يصيب أشجار الليمون في دلتا مصر وذلك على سبيل المثال لا الحصر ، فهل يعني ذلك أن عولمة الاقتصاد والتجارة قرين بعولمة الأوبئة والحروب؟ وما هي تداعيات تلك الأزمات الممتدة على سبل الوصول إلى الغذاء في المنطقة العربية، وهل من سبيل للخروج من تلك الأزمة؟

هشاشة الوضعية العربية في الصحة والغذاء والماء
بداية تعد المنطقة العربية من أكثر المناطق تأثرًا بتلك الأزمات والصراعات الممتدة وذلك لهشاشة اقتصاديات إنتاج الغذاء في المنطقة فعند النظر إلى نسب الاكتفاء الذاتي وعلاقتها بالفجوة الغذائية نجد ارتفاع وتيرة معدلات تلك الفجوة الغذائية وبخاصة في السلع الاستراتيجية حيث نجد تزايد الفجوة الغذائية في إنتاج الحبوب إلى 63.15%، الزيوت 76%، السكريات 69%. .
ومن المتوقع أن تتفاقم أزمة إنتاج الغذاء في المنطقة العربية باعتبارها من أكثر المناطق عرضة للتغيرات المناخية بسبب تزايد موجات الجفاف المصحوبة بارتفاع درجات الحرارة ، وما يرافق ذلك من توقعات بانخفاض انتاجية بعض المحاصيل الزراعية إلى 30 % بسبب ارتفاع درجات الحرارة، كذلك فإن ارتفاع مستوى سطح البحر قد يؤدي إلى العديد من الآثار السلبية على المناطق الساحلية التى تتسم بتكدس سكاني وبخاصة في بلدان مثل مصر وتونس والمغرب، وبعض بلدان الخليج.
وما زالت آثار الحروب المدمرة على بعض الأقطار العربية مثل سوريا واليمن تزيد من معدلات الهشاشة الغذائية المتمثلة في انتشار الهزال و التقزم ونقص التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة، التي زادت في الجمهورية العربية السورية فيما يتعلق بنقص الوزن من 10.1 % عام 2011 إلى 82.1% عام 2017؛ وعن انتشار معدلات الهزال التي زادت من 5.5% إلى 69% عن نفس الفترة، ومعدلات التقزم التي زادت من 27.5% إلى 100%. وفي اليمن ارتفعت هذه المعدلات بنسب كبيرة في نفس الفترة؛ حيث زاد معدل نقص التغذية من 35.5 % عام 2010 إلى 92.7% عام 2017 ، وزاد معدل الهزال من 13.3 % إلى 26.6 % ، وفيما يتعلق بالتقزم زادت النسبة من 46.6 % إلى 76.6%.
كما يتوقع أن تزداد الفجوة في الطلب على المياه من 119 مليون متر مكعب عام 2020 إلى 199 مليون متر مكعب في 2050 للمياه. هذا في الوقت الذي تعاني فيه المنطقة العربية فقرًا مائيًا يصل إلى حد الندرة المائية في بعض الأقطار العربية مثل الأردن وفلسطين ، حيث يتوقع أن ينخفض نصيب الفرد من المياه من 423 متر مكعب في عام 2011 إلى 197 متر مكعب عام 2050 ( تم احتساب تلك النسب بمعرفة الكافة من خلال تقرير المياه والتنمية، والكتاب السنوي للإحصاءات الزراعية، 2020 ).
في السياق ذاته نجد أن المياه السطحية والجوفية في المنطقة العربية كانت بمقدار 152497 مليار متر مكعب عام 2011 ويتوقع أن تنخفض إلى 135815 مليار متر مكعب 2050 بانخفاض قدره 11%، وفي الوقت الذي كان يبلغ فيه سكان الدول العربية 374 مليون نسمة وفقاً لتقديرات عام 2015 لشعبة السكان في الأمم المتحدة ومن المتوقع أن يصل هذا العدد إلى 686 مليون نسمة بحلول عام 2050، مما سينعكس على فرض المزيد من الهشاشة في الوصول للموارد البيئية من أرض ومياه وانعكاس ذلك على الفجوة الغذائية .
الأمر الذي يشير إلى أن أزمة إنتاج الغذاء أخذة في التفاقم وبخاصة في ظل استمرار الحروب وتفشي الأوبئة الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في السياسات الزراعية المطبقة في الدول العربية، وإعادة النظر في النموذج التنموي الأوسع الذي تتم من خلاله هذه السياسات، من خلال تطبيق التوصيات التالية:
إشباع الحاجات الأساسية للسكان في مقابل الزراعات التصديرية
على مدار عقود طويلة مضت، تم اتباع نهج الزراعة التصديرية اعتمادًا على نظرية النفقات النسبية، وفي محاولة لتقليل فجوة العجز في الموازين السلعية في المنطقة العربية. وبعد كل هذه العقود من تلك السياسات تفاقمت فجوة العجز في الموازين التجارية للعديد من البلدان العربية.
وقد اعتمدت تلك السياسة على تقليص المساحات المنزرعة بالمحاصيل الاستراتيجية في مقابل زيادة المساحة المنزرعة بالمحاصيل النقدية، الأمر الذي فاقم من الفجوة الغذائية من ناحية وفجوة الموازين السلعية من ناحية أخرى.
تجسير فجوة الوصول للموارد البيئية من أرض ومياه بالنسبة للمزارعين
يعد تجسير فجوة الوصول للأرض والمياه والمدخلات الزراعية أحد العوامل المحددة للخروج من نفق الفجوة الغذائية فقد لوحظ أن تركز ملكية الأراضي الزراعية يدفع أصحاب تلك الملكيات الكبيرة إلى اعتماد الحاصلات الزراعية التي يحتاجها السوق العالمي بعيدًا عن إشباع الحاجات الأساسية للسكان الذين يعانون من هشاشة الوصول للغذاء؛ حيث نجد على سبيل المثال لا الحصر أن صغار المزارعين هم أكبر المساهمين في إنتاج المحاصيل الاستراتيجية من حبوب وزيوت ولحوم وسكريات، بينما يتجه أصحاب الحيازات الكبيرة إلى إنتاج المحاصيل النقدية غير التقليدية الأمر الذي يستلزم تجسير الفجوة بين هذين النمطين في الزراعة للخروج من نفق الفجوة الغذائية.
ضرورة تضمين سياسات الأمان الحيوي في التشريعات العربية
تتسم التشريعات الزراعية في المنطقة العربية من الغياب شبه الكامل للتشريعات التي تحول دون انتشار الأوبئة والآفات الزراعية؛ وذلك بسبب غياب تشريعات الأمان الحيوي التي يجب إصدارها وفقًا للالتزامات المنصوص عليها ضمن الاتفاقيات الدولية في مجالات الزراعة والغذاء، مثل بروتوكول قرطاجنة بشأن السلامة الحيوية لعام 2000 الذي اشترطت المادة الثالثة منه ضرورة إصدار تلك التشريعات درًء للمخاطر التي تنطوي عليها عملية نقل البذور والنباتات والكائنات الحية بين الأقطار المختلفة، والتي تتطلب إجراء الاختبارات اللازمة قبل أي عملية توطين لتلك الكائنات الحية في البيئات المحلية لمختلف البلدان .
إعادة النظر في قوانين الملكية الفكرية في الحاصلات الزراعية
أعطت الاتفاقيات الإطارية لمنظمة التجارة الدولية الحق للدول في كسر براءات الاختراع المفروضة على الدول في حال مرور تلك البلدان بكوارث طبيعية أو أزمات عامة ، ولاشك أن ما يتعرض له العالم من تفشي الأوبئة والحروب يعطي للبلدان التي تعاني من مشكلات تغذوية وصحية من جراء تلك الكوارث العالمية من إمكانية الاستفادة من تلك الميزة دون الوقوع تحت طائلة العقوبات الاقتصادية.
كما أن الأمر بات يتطلب ضرورة إعادة النظر في القوانين التي اعتمدتها الدول العربية في ترسيخ الملكية الفكرية على العديد من الكائنات الحية بدعوى حمايتها، وهو الأمر الذي يكرس المزيد من التبعية الغذائية ومزيدًا من تشجيع الشركات الكبرى على فرض الاحتكارات على أسواق الغذاء في العالم .
اعتماد نمط الاقتصاد التضامني كمدخل للتمكين الاقتصادي لصغار المزارعين
يعد الاقتصاد التضامني أحد الروافع الأساسية في سبيل النهوض بأوضاع الزراعة والمزارعين في المنطقة العربية؛ نظرًا لما يتسم به واقع الزراعة في المنطقة العربية في اعتماده على 95% من صغار المزارعين في إنتاج غذائه ، والذين يعتمدون في زراعتهم على نمط الزراعات القائم على إشباع الحاجات الغذائية للسكان المحليين وكذلك على الزراعات الاستراتيجية التي تتركز فيها الفجوة الغذائية.
ومن ثم، فإن إعطاء الأولوية لصغار المزارعين هو المدخل لتجسير الفجوة الغذائية، والذي يتضمن ضرورة إعطائهم الحق في بناء مؤسساتهم الزراعية والتعاونية ، وتوحيد التشريعات الضامنة لذلك وتسهيل إجراءات بناء تلك المؤسسات مثلما هو الحال في المغرب على سبيل المثال لا الحصر ، حيث لا يحتاج تأسيس تعاونية في أي نشاط إنتاجي سوى من ثلاثة لخمسة أشخاص ، ولا تستغرق إجراءات التأسيس سوى بعض الأيام، كما ينطوي القانون على المبادئ الأساسية للتعاونيات مثل العضوية الاختيارية إلى الإدارة الديمقراطية للتعاونيات (راجع قانون التعاونيات المغربي، الجريدة الرسمية، 2014) عكس الحال في العديد من البلدان العربية الأخرى التي يتطلب تأسيس تعاونية سنوات.
كما يرتكز الاقتصاد التضامني على تبادل المدخلات الزراعية بين المزارعين وكذلك المؤسسات التعاونية على التضامن فيما بينهم بعيدًا عن الأسواق التبادلية؛ ومن ثم، كسر حلقة الوسطاء في بيع تلك المدخلات والتخفيف من حدة التضخم التي أصبحت سمة سائدة للأسواق الدولية. الأمر الذي يستلزم حث الدول العربية على إصدار تشريعات خاصة بالاقتصاد التضامني أسوة بالجمهورية التونسية التي أصدرت تشريعها الخاص بالاقتصاد التضامني في عام 2020.
إعمال مبدأ السيادة الغذائية مقابل الأمن الغذائي
آن الأوان لضرورة ترسيخ المفاهيم والسياسات المرتبطة بمبدأ السيادة الغذائية في مقابل المقولات التي تنطوي على الأمن الغذائي ، وتضمين تلك المبادئ الدساتير العربية أسوة بالدستور المصري الذي رسخ هذا المبدأ في 2014، ولايجب أن يتوقف الأمر عند تلك الحدود بل يمتد إلى إصدار تشريعات وسياسات وآليات لإعمال هذا المبدأ كمدخل لصون واستدامة الموارد البيئية والطبيعية التي تتسم بالغنى في بيئاتنا العربية.